فصل: الفصل الخامس من الباب الثالث من المقالة الثانية في المملكة الشامية وما يتصل بها من بلاد الأرمن والروم وبلاد الجزيرة بين الفرات والدجلة مما هو مضاف إلى هذه المملكة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقصد العاشر في ولاة الأمور من أرباب السيوف بأعمال الديار المصرية:

وهم على أربع طبقات:
الطبقة الأولى: النواب، والمستقر بها ثلاث نيابات:
الأولى نيابة الإسكندرية: وهي نيابة جليلة، نائبها من الأمراء المتقدمين يضاهي في الرتبة نيابة طرابلس وما في معناها أو يقاربها، وبها حاجبٌ أمير عشرة، وحاجب جندي، ووال للمدينة، وأجناد حلقةٍ عدتهم مائتا نفر، يعبر عنهم بأجناد المائتين، وبها قاضي قضاة مالكي، وقاض حنفي مستحدث، وربما كان بها قاض شافعي، والمالكي أكبر الكل بها، وهو المتحدث في أموال الأيتام والأوقاف. على انه ربما ولي قضاء قضاتها في الزمن الماضي شافعي، وبها موقع يعبر عنه في البلد بكاتب السر، وناظر متحدث في الأموال الديوانية، ومعه مستوف، وتحت يده كتابٌ وشهود؛ وبها محتسب؛ وليس بها قضاة عسكر ولا مفتو دار عدل؛ ووكيل بيت المال بها نائب عن نائب بيت المال بالقاهرة، وتركز بها أمراء المقدمين والطبلخانات في غير الزمن الذي يمتنع سير المراكب الحربية في البحر بشدة الريح منها، ووال للتركيز يسمى الحاجب. وقد مر القول على معاملتها، وذكر أحوالها في الكلام على قواعد الديار المصرية المستقرة فأغنى عن إعادته هنا.
وهذه النيابة مع جلالة قدرها ورفعة محلها ليس لها عمل يحكم فيه نائبها ولا قاضيها ومحتسبها، بل حكمهم قاصر على المدينة وظواهرها لا يتعدى ذلك، بخلاف غيرها من سائر نيابات المملكة؛ وبها كرسي سلطنة بدار النيابة؛ وعادة الخدمة السلطانية بها في أيام المواكب أن يركب نائب السلطنة من دار النيابة وفي خدمته مماليكه وأجناد المائتين المتقدم ذكره، ويخرج من دار النيابة عند طلوع الشمس، ويسير في موكبه والشبابة السلطانية بين يديه حتى يخرج من باب البحر، ويخرج الأمراء المركزون على حدتهم أيضاً، ويجتمعون في الموكب ويسيرون خارج باب البحر ساعة ثم يعودون، ويتوجه النائب إلى دار النيابة في مماليكه وأجناد المائتين، وقد فارقه الأمراء المركزون وتوجه كل منهم إلى منزله. فإذا صار إلى دار النيابة: فإذا كان في ذلك الموكب سماطٌ، وضع الكرسي في صدر الإيوان مغشىً بالأطلس الأصفر ووضع عليه سيف نمجاة سلطانية ومد السماط تحته وأكل مماليك النائب وأجناد المائتين وجلس النائب بجنبة من الإيوان والشباك مطلِ على مينا البلد، ويجلس القاضي المالكي عن يمينه، والقاضي الحنفي عن يساره، والناظر تحته، والموقع بين يديه، ورؤوس البلد على قدر منازلهم، وترفع القصص فيقرؤها الموقع على النائب فيفصلها بحضرة القضاة ثم ينصرف الموكب.
قلت: وهذه النيابة مستحدثة، وكان ابتداء ترتيبها في سنة سبع وستين وسبعمائة في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين حين طرقها الفرنج وفتكوا بأهلها وقتلوا ونهبوا وأسروا، وكانت قبل ذلك ولايةً تعد في جملة الولايات الطبلخاناه، وكان لواليها الرتبة الجليلة والمكانة العلية.
الثانية نيابة الوجه البحري. وهي مما استحدث في الدولة الظاهرية برقوق، ونائبها من الأمراء المقدمين، وهو في رتبة مقدم العسكر بغزة الآتي ذكره في الممالك الشامية، ومقر نيابتها مدينة دمنهور بالبحيرة، وحكمه على جميع بلاد الوجه البحري المتقدم ذكرها في الكلام على أعمال الديار المصرية المستقرة خلا الإسكندرية، وليست على قاعة النيابات في ركوب المراكب وما في معناها؛ بل نائبها في الحقيقة كاشفٌ كبير، وليس فيها رسوم النيابة سوى لبس التشريف وكتابة التقليد والمكاتبة بما يكاتب به مثل نائبها من النواب، وقد كان القائم بها في الزمن الأول قبل استقرارها نيابةً يعبر عنه بوالي الولاة.
الثالثة نيابة الوجه القبلي. وهي مما استحدث في الدولة الظاهرية برقوق أيضاً، وكان مقر نائبها مدينة أسيوط، وحكمه على جميع بلاد الوجه القبلي، وهي في الترتيب والرتبة على ما تقدم من نيابة الوجه البحري، غير أنها أعظم خطراً في النفوس وكان القائم بها قبل ذلك يسمى والي الولاة كما تقدم في الوجه البحري.
الطبقة الثانية: الكشاف:
قد تقدم أنه استحداث النيابة بالوجهين القبلي والبحري كان بهما كاشفان يعبر عن كل منهما بوالي الولاة، ولما استقر نيابتين جعل للوجه البحري كاشفٌ من أمراء الطبلخاناه على العادة المتقدمة، وهو في الحقيقة تحت أمر نائب الوجه البحري، ومقرته منية غمر من الشرقية، وجعل كاشف آخر للبهنساوية والفيوم، وعطل الفيوم من الوالي، وباقي الوجه القبلي أمره راجعٌ إلى نائبه؛ وللجيزية كاشفٌ يتحدث في جسورها وسائر متعلقاتها، ولا يتعدى أمره إلى غيرها من النواحي.
الطبقة الثالثة: الولاة بالوجهين القبلي والبحري:
وقد تقدم ذكر أعمالها؛ ومراتب الولاة بهما لا تخرج عن مرتبتين: المرتبة الأولى الولاة من أمراء الطبلخاناه. وهي ولاية بالوجهين القبلي والبحري على ما استقر عليه الحال.
فأما الوجه القبلي ففيه أربع ولايات من هذه الرتبة: وهي ولاية البهنسى، وولاية الأشمونين، وولاية قوص، وهي أعظمها حتى إن واليها كان يركب بالشبابة أسوة النواب بالممالك، وولاية أسوان: وهي مستحدثة في الدولة الظاهرية برقوق، وكانت قبل ذلك مضافة إلى والي قوص يجعل فيها نائباً من تحت يده، وكانت ولاية الفيوم طبلخاناه، ثم استقرت كشفاً على ما تقدم.
أما أسيوط، فلم يكن بها والٍ لكونها مقر نائب الوجه القبلي ومقر والي الولاة من قبله، وسيأتي ما كان ولاية طبلخاناه من الوجه القبلي ثم نقل.
وأما الوجه البحري ففيه أربع ولايات من هذه الرتبة، وهي ولاية الشرقية، ومقر واليها بلبيس؛ وولاية المنوفية ومقر واليها مدينة منوف؛ وولاية الغربية، ومقر واليها المحلة الكبرى؛ وهي تضاهي ولاية قوص من الوجه القبلي إلا أن واليها لم يركب بالشبابة قط؛ وولاية البحيرة، ومقر واليها مدينة دمنهور، وربما عطلت ولايتها لكونها مقرة النائب، وقد تقدم أن ولاية النائب قبل أن تستقر نيابة كانت ولاية طبلخاناه.
المرتبة الثانية من الولاة أمراء العشرات. وهي سبع ولايات بالوجهين: فأما القبلي ففيه من هذه الرتبة ثلاث ولايات: ولاية الجيزة، وكانت قبل ذلك طبلخاناه؛ وولاية إطفيح ولم تزل عشرة؛ وولاية منفلوط وولايتها عشرون، وكانت قبل ذلك ولاية طبلخاناه، وقد كان بعيذاب في الأيام الناصرية ابن قلاوون وما بعدها وال أمير عشرة يولى من قبل السلطان ويراجع والي قوص في الأمور المهمة.
وأما الوجه البحري، ففيه أربع ولايات من هذه الرتبة، ولاية منوف، وولاية أشموم، وولاية دمياط، وولاية قطيا، وكانت قبل ذلك طبلخاناه.
الطبقة الرابعة: أمراء العربان بنواحي الديار المصرية:
قد تقدم في الكلام على ما يحتاج إليه الكاتب في المقالة الأولى ذكر أصول أنساب العرب، وانقسامهم إلى قحطانية وهم العاربة، إلى عدنانيةٍ وهم المستعربة، وبيان رجوع كل بطن من بطون العرب الموجودين الآن بالديار المصرية وغيرها إلى قبيلتهم التي إليها ينتسبون، وبيان من بوجهي الديار المصرية القبلي والبحري من القبائل، وأفخاذ كل قبيلة المتشعبة منها. والمقصود بيان أمراء العربان بالوجهين المذكورين في القديم والحديث.
فأما الوجه القبلي، فقد ذكر الحمداني أن الإمرة به في بيتين من بلي من قضاعة بن حمير بن سبإٍ من القحطانية.
الأول بنو شادٍ المعروفون ببني شادي. وكانت منازلهم بالقصر الخراب المعروف بقصر بني شادي بالأعمال القوصية، وتقدم هناك أنه قيل إنهم من بني أمية بن عبد شمس من قريشٍ.
الثاني العجالة. وهم بنو العجيل بن الذئب منهم أيضاً، وكانوا معهم هناك.
العمل الثاني عمل الأشمونين. وكانت الإمرة به في بني ثعلب من السلاطنة، وهم أولاد أبي جحيش من الحيادرة من ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، من عقب الحسين السبط ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكانت منازلهم بدروت سربام، وغلب عليها الشريف حصن الدين بن ثعلب فعرفت بدورت الشريف من يومئذ، واستولى عليها وعلى بلاد الصعيد. وقد تقدم أنه كان في آخر الدولة الأيوبية. فلما ولي المعز أبيك التركماني: أول ملوك الترك بالديار المصرية السلطنة، انف من سلطته وسمت نفسه إلى السلطنة فجهز إليه المعز جيوشاً، فجرت بينهم حروبٌ لم يظفروا به فيها، وبقي على ذلك إلى أن كانت دولة الظاهر بيبرس، فنصب له حبائل الحيل وصاده بها وشنقه بالإسكندرية.
العمل الثالث البهنسى، وكانت الإمرة فيه في بيتين: الأول أولاد زعازع. بضم الزاي من بني جديدي من بني بلار من لواثة من البربر أو من قيس عيلان على الخلاف السابق عند ذكر نسبهم في المقالة الأولى. قال الحمداني: وهم أشهر من في الصعيد.
الثاني أولاد قريشٍ. قال الحمداني: وهم أمراء بني زيد، ومساكنهم نويرة دلاص.
قال: وكان قريشٌ هذا عبداً صالحاً كثير الصدقة، ومن أولاده سعد الملك المشهور بنوه هناك.
وذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف: أن الإمرة بالوجه القبلي في زمانه وهو سلطنة الناصر محمد بن قلاوون وما وليها كانت لناصر الدين عمر بن فضل، ولم يذكر مقرته ولا من أي العرب هو، وذكر أيضاً أن إمرة فيما فوق أسوان كانت في عرب يقال لهم الحدارية في سميرة بن مالك. قال: وهو ذو عدد جم وشوكة منكية، يغزو الحبشة وأمم السودان ويأتي بالنهاب والسبايا، وله أثر محمودٌ وفضلٌ مأثور، وفد على السلطان فأكرم مثواه، وعقد له لواء وشرف بالتشريف، وقلد، وكتب إلى ولاة الوجه القبلي عن آخرهم وسائر العربان بمساعدته ومعاضدته والركوب للغزو معه متى أراد، وكتب له منشور بما يفتحه من البلاد، وتقليدٌ بإمرة عربان القبلة مما يلي قوص إلى حيث تصل غايته، وتركز رايته.
قلت: أما في زماننا فمذ وجهت عرب هوارة وجوهها من عمل البحيرة إلى الوجه القبلي ونزلت به انتشرت في أرجائه انتشار الجراد، وبسطت يدها من الأعمال البهنساوية إلى منتهاه حيث أسوان وما والاها، وأذعنت لهم سائر العربان بالوجه القبلي قاطبةً، وانحازوا إليهم وصاروا طوع قيادهم.
الإمرة الآن فيهم في بيتين: الأول بنو عمر: محمد وإخوته. ومنازلهم بجرجا ومنشأة إخميم، وأمرهم نافذ إلى أسوان من القبلة وإلى آخر الأشمونين من بحري.
الثاني أولاد غريب. وبيدهم بلاد البهنسى، ومنازلهم دهروط وما حولها.
وأما الوجه البحري، فقد ذكر الحمداني أن الإمرة فيهم في خمسة أعمال: العمل الأول الشرقية. قال: والإمرة فيها في قبيلتين.
الأولى ثعلبة، وذكر أن الإمرة كانت فيهم في شقير بن جرجي من المصافحة من بني زريقٍ، وفي عمر بن نفيلة من العليميين.
الثانية جذام: وقد ذكر أن الإمرة كانت فيهم في خمسة بيوت.
الأول بيت أبي رشد بن حبشي، بن نجم، بن إبراهيم من العقيليين: بني عقيل بن قرة، بن موهوب، بن عبيد، بن مالك، بن سويد، من بني زيد بن حرام، بن جذام؛ أمر بالبوق والعلم.
الثاني طريف بن مكنون، من بني الوليد، بن سويد المقدم ذكره، وإلى طريف هذا ينسب بنو طريف من بلاد الشرقية. قال الحمداني: وكان من أكرم العرب، كان في مضيفته أيام الغلاء اثنا عشر ألفاً تأكل عنده، وكان يهشم الثريد في المراكب. قال: ومن بنيه فضل بن سمح بن كمونة، وإبراهيم بن عالي؛ أمر كل منهما بالبوق والعلم.
الثالث بيت أولاد منازل من ولد الوليد المذكور، كان منهم معبد بن مبارك، أمر بالبوق والعلم.
الرابع بيت نمي بن خثعم من بني مالك، بن هلبا بن مالك بن سويد، أقطع خثعم بن نمي المذكور وأمر، واقتنى عدداً من المماليك الأتراك والروم وغيرهم، وبلغ من الملك الصالح أيوب منزلةً، ثم حصل عند الملك المعز أبيك التركماني على الدرجة الرفيعة، وقدمه على عرب الديار المصرية، ولم يزل على ذلك حتى قتله غلمانه، فجعل المعز ابنيه: سلمى ودعش عوضه، فكانا له نعم الخلف، ثم قدم دعش دمشق فأمره الملك الناصر صاحب دمشق يومئذ من بني أيوب ببوق وعلم، وأمر الملك أبيك أخاه سلمى كذلك.
الخامس بيت مفرج بن سالم بن راضي من هلبا بعجة، ابن زيد، بن سويد، بن بعجة، من بني زيد بن حرام بن جذام، أمره المعز أبيك التركماني بالبوق والعلم. وذلك انه حين أراد المعز تأمير سلمى بن خثعم المقدم ذكره امتنع أن يؤمر حتى يؤمر مفرج بن غانم فأمر.
العمل الثاني المنوفية. والإمرة فيها لأولاد نصير الدين من لواتة، ولكن إمرتهم في معنى مشيخة العرب.
العمل الثالث الغربية. والإمرة فيه في أولاد يوسف من الخزاعلة من سنبس من طيء من كهلان من القحطانية، ومقرتهم مدينة سخا من الغربية.
العمل الرابع البحيرة. وقد ذكر في التعريف: أن الإمرة في الدولة الناصرية ابن قلاوون كانت لخالد بن أبي سليمان وفائد بن مقدم. قال في مسالك الأبصار: وكانا أميرين سيدين جليلين ذوي كرم وإفضال وشجاعة وثبات رأي وإقدام.
العمل الخامس برقة. قال في التعريف: ولم يبق من أمراء العرب ببرقة يعني في زمانه إلا جعفر بن عمر، وكان لا يزال بين طاعة وعصيان، ومخاشنة وليان، والجيوش في كل وقت تمد إليه، وقل أن تظفر منه بطائل أو رجعت منه بمغنم، وإن أصابته نوبةٌ من الدهر. قال: وآخر أمره أن ركب طريق الواح حتى خرج من الفيوم وطرق باب السلطان لائذاً بالعفو، ووصل ولم يسبق به خبرٌ، ولم يعلم السلطان به حتى استأذن له عليه وهو في جملة الوقوف بالباب، فأكرم أتم الكرامة وشرف بأجل التشاريف، وأقام مدة في قرى الإحسان وإحسان القرى وأهله لا يعلمون ما جرى ولا يعلمون أين يمم ولا أي جهة نحا، حتى أتتهم وافدات البشائر وجاءت منه. فقال له السلطان: لم لا أعلمت أهلك بقصدك إلينا؟ قال: خفت أن يقولوا: يفتك بك السلطان فأتثبط، فاستحسن قوله، وأفاض عليه طوله، ثم أعيد إلى أهله، فانقلب بنعمةٍ من الله لم يمسسهم سوء ولا رثى له صاحبٌ ولا شمت به عدو.
قلت: والإمرة اليوم في برقة في عمر بن عريف، وهو رجل دينٌ وكان أبوه عريف ذا دين متين رأيته في الإسكندرية بعد الثمانين والسبعمائة، واجتمعت به فوجدت آثار الخير ظاهرةً عليه.

.الفصل الخامس من الباب الثالث من المقالة الثانية في المملكة الشامية وما يتصل بها من بلاد الأرمن والروم وبلاد الجزيرة بين الفرات والدجلة مما هو مضاف إلى هذه المملكة:

وفيه ستة أطراف:

.الطرف الأول في فضل الشام وخواصه وعجائبه:

وفيه مقصدان:
المقصد الأول في فضل الشام:
أعظم شاهد لذلك ما أخرجه الترمذي من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: كنا يوماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع. فقال رسول الله: «طوبى لأهل الشام». فقلت: لم ذاك يا رسول الله؟ قال: «لأن الملائكة باسطةٌ أجنحتها عليه». هذا وقد بعث به الكثير من الأنبياء عليهم السلام، وفيه ضرائحهم الشريفة، والمسجد الأقصى الذي هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وهو أول القبلتين؛ وبه ينزل المسيح عليه السلام بمنارة جامع دمشق، وبه يقتل الدجال بمدينة لد. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله بارك فيما بين العرش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس».
المقصد الثاني في خواصه وعجائبه:
أما خواصه فإن به الأماكن التي تعظمها الأمم على اختلاف عقائدهم كالصخرة التي هي قبلة اليهود، والقمامة التي يحجها النصارى من سائر أقطار الأرض، وطورنابلس الذي تحجه السامرة؛ وبمدينة صور كنيسةٌ تعتقد طائفةٌ من النصارى انه لا يصح تمليك ملوكهم إلا منها، على ما سيأتي ذكره في الكلام على أعمال صفد إن شاء الله تعالى، وغير ذلك مما تنقاد به الأمم إلى صاحب هذه المملكة وتذعن لمسالمته.
وأما عجائبه فكثيرة.
منها: حمة طبرية المشهورة: وهي عين تنبع ماءً شديد الحرارة يكاد يسلق البيضة، يقصدها المترددون للاستشفاء بالاغتسال فيها. قال ابن الأثير في عجائب المخلوقات: وليس فيها حمام يوقد فيه النار إلا الحمام الصغير.
ومنها قبة العقارب بمدينة حمص. وهي قبة بالقرب من مسجدها الجامع، إذا أخذ شيء من تراب حمص وجبل بالماء وألصق بداخل تلك القبة وترك حتى يجف ويسقط بنفسه من غير أن يلقيها أحد ثم أخذت ووضع منها شيءٌ في بيت لم يدخله عقربً، أو في قماش لم يقربه، وإن ذر على عقرب منه شيء أخذها مثل السكر فربما زاد عليها فقتلها، بل قيل إن ذلك لا يختص بالقبة بل عامة أرض البلد كذلك حتى لا يدخلها عقرب إلا مات، بل لا يقرب ثياباً ولا أمتعة عليها غبارها، وإلى ذلك أشار القاضي الفاضل في البشرى بفتوحها بقوله: ودبت إليها عقارب المجانيق فخالفت عادة حمص في العقارب، ورميت الحجارة بالحجارة فوقعت العداوة المعروفة بين الأقارب.
ومنها عين فوارةٌ داخل البحر الملح على القرب من ساحل مدينة طرابلس على قدر رمية حجر عن البئر، تنبع ماءً عذباً يطفو على وجه الماء قدر ذراع أو أكثر يتبين عند سكون الريح.
ومنها: وادي الفوار وهو وادٍ بالقرب من حصن الأكراد من عمل طرابلس غرباً عنه بشمال على الطريق السالكة. قال في مسالك الأبصار: وهي صفة بئر قائمة في الأرض، وفي سفل الأرض سردابٌ ممتدٌ إلى الشمال يفور في كل أسبوع يوماً واحداً لا غير، فتسقى به أرضٌ ومزدرعاتٌ، وينزل عليه التركمان ويردونه؛ ويسمع له قبل فورانه دوي كالرعد، وهو بقية الأيام يابسٌ لا ماء فيه. قال: وذكر لي من دخل السرداب أن في نهايته نهراً كبيراً آخذاً من الغرب إلى الشرق تحت الأرض؛ له جريان قوي، وبه موج وريح عاصف، لا يعرف إلى أين يجري ولا من أي جهة يأتي.
ومنها حمام القدموس من قلاع الدعوة من عمل طرابلس يخرج منها أنواع كثيرٌ من الحيات تظهر من أنابيب مائها وتدخل في ثياب داخلها، ولم يشتهر أنها أضرت أحداً قط على ممر الدهور وتطأول الأزمنة، حكاه في مسالك الأبصار.
ومنها صدعً في سور الخوابي من قلاع الدعوة من عمل طرابلس أيضاً. إذا لدغ أحد بحيةٍ فأتى إلى ذلك الموضع فشاهده بعينه أو أرسل رسوله فشاهده، سلم من تلك اللدغة، ولم يضره السم. إلى غير ذلك من العجائب الظاهرة والمندرسة بمرور الزمان عليها.
قال ابن الأثير: وبقرى حلب قريةٌ تسمى براق، يقال إن بها معبداً يقصده أصحاب الأمراض ويبيتون به. فإما أن يرى المريض في منامه من يقول له استعمل كذا وكذا فيبرأ، أو يمسح عليه بيده فيبرأ. قال في تاريخه: وبقرية مبرون من قرى صفد مغارة يظهر فيها الماء في يوم من السنة تجتمع إليه اليهود في ذلك اليوم، ويجلبون منه الماء إلى البلاد البعيدة؛ وبوادي دلسه من عملها عينٌ تعرف بعين الجن تفور لحظة كالنهر ثم تغور حتى لا يبقى فيها ماء، ثم تفور كذلك ليلاً ونهاراً؛ وبقرية بكوزا من قرى صفد عنبٌ داخل العنبة عنبةٌ أخرى؛ وبقرية عدشيب من قراها بلوطٌ يؤخذ الواحد منه من الشجرة فيوجد حضنها حجر؛ وبقرية عياض تراب الجير إذا عمل منه كوزٌ وسقي فيه الكسير من آدمي أو غيره، جبر عظمه؛ وبالناصرة من أعمالها كنيسة بها عمود إذا اجتمع عنده جماعة وعملوا سماعاً عرق العمود حتى يظهر عرقه.